النساء الريفيات التونسيات: مؤشّر للتقدّم السياسي

آيات بوحاجب

4 اب 2024

معرض فخّار في سجنان. الصورة من اريشف الكاتبة

منذ عام 2011، شهدت النساء الريفيات في تونس بعض المكاسب في التمكين السياسي والاقتصادي، لكن ما زالت تواجه العديد من التحدّيات.

في قلب تونس، بعيداً عن المدن الساحلية الصاخبة، يظهر مؤشر غالباً ما يتم تجاهله فيما يخص “صحّة” الديمقراطية: المرأة الريفية. يشكّل التمكين الاقتصادي والسياسي للنساء الريفيات التونسيات عاملا محفّزا وايضا معيارا لقياس التقدم الديمقراطي في البلاد. لقد تطوّرت هذه العلاقة المعقّدة بشكل كبير منذ ثورة 2011، مما يكشف عن تقدم واعد وتحديّات مستمرة تعكس النضالات الأوسع لعمليّة الانتقال الديمقراطي في تونس. تستكشف هذه المدوّنة العلاقة المتشابكة بين التمكين الاقتصادي والسياسي للمرأة الريفية التونسية.

تستند الأفكار المقدّمة هنا إلى حد كبير على مقابلات متعمّقة مع شخصيتين بارزتين: وفاء مخلوف، المدير التنفيذي لمؤسسة CEED تونس، وهي تقدّم رؤية قيّمة حول مبادرات التمكين الاقتصادي، وصبيحة عياري، صانعة فخّار من سجنان (ولاية بنزرت الشماليّة) التي عملت في مجلسها البلدي المحلي، وهي تسلّط الضوء على تجربتها المباشرة للمشاركة السياسية كامرأة في الريف. توفر أصواتهما رؤى حاسمة على أرض الواقع حول التحديات والفرص التي تواجه النساء الريفيات في المشهد الديمقراطي المتطوّر والمتحوّل في تونس.

تعريف “الريفية” في السياق التونسي

قبل الخوض في التفاصيل، من المهم فهم ما تعنيه عبارة “الريفية” في تونس. يشير مصطلح “المرأة الريفية” في الخطاب التنموي والسياسي التونسي غالبًا إلى النساء اللاتي يعشن في مناطق بعيدة عن المراكز الحضرية الكبرى، ولكن من المهم ملاحظة أن هذا المفهوم لا يقتصر على المحافظات الريفية التقليدية. حتى المناطق التي تمتعت تاريخياً بالتنمية الاقتصادية، بما في ذلك المدن الساحلية، تحتوي على مناطق ريفية متخلفة. تشمل هذه المناطق الريفية مجموعة متنوعة من البيئات من المناطق الزراعية الغنية بالمياه إلى المناطق الداخلية القاحلة. تتميز عادة بكثافة سكانية منخفضة، وصول محدود إلى الخدمات، واقتصادات تعتمد على الزراعة أو الحرف التقليدية. في سياق الخطاب التنموي التونسي، غالباً ما ترتبط المناطق الريفية بمعدلات فقر أعلى، ومستويات تعليمية أقل، ومعايير اجتماعية أكثر تقليدية، مما يؤثر بشكل خاص على أدوار النساء وفرصهن في العمل وفي السياسة. يبرز هذا الفهم الدقيق لـ “الريفية” تعقيد معالجة قضايا النساء الريفيات عبر المشهد المتنوع في تونس.

من الاستغلال إلى التمكين: تأثير الثورة

قصة النساء الريفيات في تونس هي قصة صمود في وجه الاستغلال. قبل ثورة 2011، وجدت هؤلاء النساء أنفسهن غالباً عالقات في حالة من الضعف الاقتصادي والتهميش السياسي. غالباً ما كانت تفتقر هذه النساء إلى الاستقلالية الاقتصادية والوعي السياسي، مما جعلهن عرضة لشراء الأصوات وأشكال أخرى من التلاعب السياسي. كانت أصواتهن يمكن التلاعب بها بسهولة بواسطة الحوافز الاقتصادية الفوريّة، مما يقوّض نزاهة العملية الديمقراطية. أصبحت “شاحنات الموت” سيئة السمعة التي كانت تنقلهن إلى المزارع في ظروف خطرة رمزاً صارخاً لاستغلالهن. تشير وفاء مخلوف، المدير التنفيذي لمؤسسة CEED تونس، إلى أن هذه القضية أصبحت حافزاً للاهتمام بحقوق النساء الريفيات بعد الثورة: “ظهرت حركة تسلّط الضوء على النقل الخطير لهؤلاء النساء إلى المزارع حيث واجهن أجور غير متساوية وظروف عمل سيئة، مما أثار مناقشات واسعة حول الإصلاحات التشريعية والسياساتية لمعالجة هذه القضايا.”

كانت ثورة الياسمين نقطة تحوّل للتمكين النسائي الريفي في تونس. ظهرت سياسات ومبادرات جديدة تهدف إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي والمشاركة المدنيّة بين هذه المجموعة المهمشة تاريخياً. ومن المبادرات الجديرة بالملاحظة هي برنامج إنصاف، التي تنفذها CEED تونس بالتعاون مع Skills to Succeed. يوفر هذا البرنامج الدعم للنساء الرياديّات في المشاريع الإقتصادية في المناطق المحرومة مثل قابس وتوزر وتطاوين وقبلي. تشرح مخلوف تأثير البرنامج: “لقد حققت برامجنا العديد من قصص النجاح، حيث برزت المشاركات كأعمدة للمجتمع، ونماذج يُحتذى بها، ومستشارات موثوقات للنساء الأخريات، مما يخلق تأثيراً موجياً للتمكين في جميع أنحاء مجتمعاتهن.”

التلازم بين التمكين الاقتصادي والسياسي

تتردد صدى العلاقة بين الاستقلال الاقتصادي والصوت السياسي في قصص هؤلاء النساء. تشرح مخلوف هذه العلاقة بوضوح: “لا يمكن للمرأة الريادية أن تنجح دون أن تكون مشاركة في مجتمعها بطرق أخرى، سواء في البلدية، الانتخابات، الحياة المدنية، السياسة والعكس صحيح.” مع اكتساب النساء للاستقلال المالي، غالباً ما يزداد وعيهن بحقوقهن واستعدادهن للدفاع عن أنفسهن ومجتمعاتهن. تتابع مخلوف: “عندما تزدهر المرأة الريادية، تصبح بشكل طبيعي منارة أمل للنساء الأخريات اللاتي يواجهن تحديات، وتتحول إلى مدافعة وتنخرط بشكل حتمي في المشاركة السياسية والمدنية الأوسع.”

هذا التفاعل بين التمكين الاقتصادي والمشاركة المدنية ليس مجرد نظري؛ بل يتجلّى في تجارب النساء الريفيات في تونس. في الواقع، مع تجذر العديد من المبادرات عبر المشهد الريفي في تونس، بدأت أفراد من النساء في شق طريقهن الخاص نحو التمكين، حيث تقدّم قصصهن شهادات قوية على الإمكانات التي تطلقها الاستقلالية الاقتصادية. على سبيل المثال، في بلدة سجنان الهادئة، تبرز قصة صبيحة عياري، صانعة فخارمن سجنان، تونس، كيف يمكن أن يؤدي الاستقلال الاقتصادي إلى زيادة الفاعليّة السياسية. لعبت عياري دوراً حاسماً في الاعتراف بفخار سجنان كتراث اليونسكو. تكشف رحلتها عن كل من الإمكانات والتحديات التي تواجه المشاركة المدنية للنساء الريفيات. يوضح انخراط عياري في السياسة المحلية الصلة بين التمكين الاقتصادي والمشاركة السياسية. في الواقع، بعد فترة وجيزة من الثورة، تم تعيينها في مجلس بلديتها المحلي، حيث خدمت لمدة ثلاث سنوات.

هشاشة التقدّم

كانت تجربة صبيحة في المجلس مختلطة، مما يعكس التحديات الأوسع التي تواجه النساء في الحكم المحلي. انضمت بآمال كبيرة، معتقدة أن وضع البلاد سيتحسّن. كان وجود عياري في المجلس ذو أهمية. كانت واحدة من امرأتين فقط، بما في ذلك العمدة، مما يبرز التفاوت المستمر بين الجنسين في الحكم المحلي. ومع ذلك، وجدت الواقع مخيباً للآمال: “كان لدي آمال كبيرة لتقدم البلاد، لكن بدلاً من ذلك، واجهت نظامًا مدفوعًا بالغرور والمصالح الشخصية. كان كل شيء عن الهيبة وألاعيب القوّة، دون تغيير حقيقي. كان السياسيون يملؤون جيوبهم بينما يكافح المواطنون العاديون لتلبية احتياجاتهم الأساسية.” تكشف تجربة عياري هنا عن حدود التمثيل دون تغيير النظام. وأشارت إلى أنه حتى عندما تحدثت إلى العمدة وهي سيّدة أخرى حول القضايا التي تواجه النساء الريفيات، كانت مخاوفها غالباً ما تُرفض.

تبرز هذه التجربة الحاجة إلى نهج شامل في التغييرلا يزيد من تمثيل النساء فحسب، بل يعالج أيضًا الديناميكيات الأساسية للسلطة والحواجز المؤسسية التي تعيق المشاركة الفعالة للنساء. لذلك، بينما يتم استكشاف الحلول المبتكرة لمعالجة هذه التحديات المعقدة، فإن الطريق إلى الأمام ليس بدون عقبات، كما أظهرت التطورات الأخيرة. في الواقع، على الرغم من التقدم الواضح منذ عام 2011، شهدت السنوات الأخيرة اتجاهات مقلقة تهدد المكاسب في تمكين النساء الريفيات. أثّر حل المجالس البلدية في عام 2023 والتحولات السياسية الأوسع سلبًا على مشاركة النساء في الحكم المحلي. وجدت دراسة أجرتها المبادرة العربية للإصلاح أن المستشارين المحليين الشباب من النساء واجهن تحديات كبيرة، بما في ذلك التمييز على أساس الجنس، التمييز على أساس العمر، واختلالات في علاقات القوة. أفادت إحدى المستشارات بأنها قيل لها أن “تتزوج” وأن “مكانها في بيت عائلتها، وليس في البلدية.” تسلط هذه العقبات الضوء على الحاجة المستمرة إلى تغييرات ثقافية ومؤسسية لدعم المشاركة السياسية للنساء وتؤكد على هشاشة التقدم. هناك حاجة ماسّة لجهود مستدامة لضمان الحفاظ على المكاسب التي حققتها النساء الريفيات وتعزيزها.

نظرة إلى الأمام

لمعالجة التحديات المتعددة التي تواجه النساء الريفيات التونسيات وتعزيز تمكينهن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هناك حاجة إلى مقاربة شاملة. ينبغي أن تجمع هذه المقاربة بين زيادة التمويل لبرامج التعليم والتدريب المهني المخصصة مع مبادرات تعليم مدني أكثر قوة يمكن أن تصل فعلا إلى المناطق النائية وتتغلب على الحواجز الثقافية. تلعب منظمات المجتمع المدني (CSOs) دورًا حاسمًا في هذه العملية، حيث غالبًا ما يُنظر إليها بشكل أكثر إيجابية من قبل النساء الريفيات مقارنة بالهياكل السياسية الرسمية. من خلال زيادة انتشارها ووضوحها في المناطق الريفية، يمكن أن تعمل منظمات المجتمع المدني كجسور قيّمة، مع تقديم تدريب على القيادة، وفرص للتواصل، وطرق للمشاركة السياسية.

ومع ذلك، تواجه تنفيذ هذه البرامج عقبات كبيرة، بما في ذلك الموارد المحدودة، والعزلة الجغرافية، والأعراف الثقافية الراسخة. للتغلب على هذه العقبات، يجب استكشاف استراتيجيات مبتكرة مثل وحدات التعليم المدني المتنقلة وإشراك قادة المجتمع المحلي كمّعلمين مدنيين. علاوة على ذلك، فإن تعزيز الروابط بين المبادرات الاقتصادية للنساء الريفيات والهياكل السياسية الرسمية ضروري لتحويل المكاسب الاقتصادية إلى تأثير سياسي مستدام. من خلال معالجة هذه الفجوات واستغلال المكانة الموثوقة لمنظمات المجتمع المدني، يمكن لتونس ان تتقدّم في تمكين النساء الريفيات على أسس متينة، مما يعزز في النهاية العمليات الديمقراطية من الأسفل.

السيرة الذاتية للكاتبة: آية بوحاجب هي خريجة بتفوق من كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون قطر، حيث تخصصت في السياسة الدولية. ركزت دراستها على دراسات التحول الديمقراطي مع التركيز على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. (MENA). تناولت أطروحة آية بعنوان “تمهيد الطريق للسلطوية: إعادة التفكير في التحول الديمقراطي لتونس بعد الربيع العربي (2011-2019)” التحولات السياسية في أعقاب الربيع العربي. تجمع خلفيتها الأكاديمية بين الخبرة الإقليمية والمهارات التحليلية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. حاليًا، تعمل آية كمستشارة مشاركة في شركة برايس ووترهاوس كوبرز (PwC) الشرق الأوسط، حيث تطبق معرفتها بالديناميات الإقليمية على مشاريع الاستشارات في الشركة.