صعود وهبوط “القيادة” الامريكية؟
المصدر: Wikimedia Commons
ديموس تونس
29 اب 2024
لأن الوطن العربي “شديد الاختراق” تعرّض مرارا للتوغّل والإحتلال الأجنبي لأكثر من 150 عامًا، لا يمكن تجاهل شعوبه ونخبه الصراعات على “القيادة العالمية”. يستمر العرب في نضالهم لكسر قيود التبعية والتدخل (ما بعد) الاستعماري. كانت التطلعات للسيادة الشعبية في صميم الحركات المناهضة للاستعمار في الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي، والربيع العربي الذي انطلق عام 2011، والمقاومة الفلسطينية المستمرة اكثر من عامًا ضد الاحتلال والعنف والتهجير من قبل إسرائيل. وإلى الحد التي تسعى فيه شعوب المنطقة الى التحرر ، يجب عليها متابعة المنافسة الشديدة (وهي تفعل) بين القوى العظمى وخططها التي تخص الوطن العربي.
في مقال نشرته مؤخرا المجلة الأمريكية المعروفة والمؤثرة “الشؤون الخارجية” (فورين افيرز)، تحاجج مستشارة الأمن القومي السابقة (2001-2005) ووزيرة الخارجية (2005-2009) في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش ضد “الانعزالية” الأمريكية. تكتب هذه البروفيسورة المختصة بالعلوم السياسية في جامعة ستانفورد أن في هذا المناخ الدولي الذي أصبح “أكثر خطورة” من حقبة الحرب الباردة لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلّى عن واجبها (الطبيعي على ما يبدو) بقيادة عالم الديمقراطيات والأسواق الحرة. تتضاءل النظرة للعولمة بأنها “قوة إيجابية” في العالم. وتدفع الصين ,بكل قوتها الاقتصادية-التكنولوجية، والتي أدى تقدمها الاقتصادي المذهل إلى “السيطرة السياسية” بدلا من الإصلاح السياسي الليبرالي تحت قيادة شي جين بينغ ، نحو الصراع المباشر الخطير، ولا سيما بشأن تايوان. وقد عادت الإمبريالية الروسية بزخم كبير ، كما يشهد غزو بوتين لأوكرانيا. وفي الشرق الأوسط، تلوح إيران كقوّة نووية محتملة، وفقًا لها، دولة “تخيف كل من روسيا والصين” نظرا لإحداثها الفوضى في المنطقة.
وتشير رايس إلى أن “القوى التصحيحية” على رأسها الصين وروسيا تميل للتعاون أكثر فأكثر، مما يستوجب على الولايات المتحدة أن تتصرف بسرعة وبقوة. على أمريكا حسب قولها أن تستمر في الحرب والعقوبات المستمرة ضد روسيا (وفي النهاية قبول أوكرانيا في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي)، وأن تتصدّى للتحدي التكنولوجي للصين من خلال استثمار هائل، وأن تعزز ميزانيتها وتحسن استراتيجيتها الدفاعية. وهناك ايضا مكان لبعض القوة الناعمة (التعليم الجامعي الأمريكي، دعم حركات المعارضة) التي يمكن ان تخفف من حدة الردع الأمريكي، مما يجذب بعض الشرائح المرنة بين الشعبين الروسي والصيني الى التأثير الأمريكي. وتلتفت رايس بشكل موجز الى “الجنوب العالمي”، حيث يجب على الولايات المتحدة “إظهار مشاركة مستدامة” في قضايا “التنمية الاقتصادية والأمن وتغير المناخ”، ويفضل أن يتم ذلك قبل أن تتفوق عليها الصين في ذلك. والخلاصة، كما تقول هذه وزيرة الخارجية السابقة ، هي أن الولايات المتحدة يجب ألا تتراجع عن محاولة “تشكيل النظام العالمي” وفقًا لما يناسبها.
لطالما كان “الاستثناء الأمريكي“، او الفكرة أن الولايات المتحدة أمة فريدة اختارها الله لتكون “مدينة مضيئة على تلة”، نموذجًا رياديًا للحرية في العالم، حاضر في الخطاب السياسي الأمريكي. وكما يراها أصحاب النظرية البنائية، فإن مركزية هوية الولايات المتحدة كالديمقراطية الرائدة في العالم، حسب الأسطورة التي حاكتها عن نفسها، تتداخل مع تشكيل بعض سياساتها الخارجية، بما في ذلك ما يسمى بالترويج للديمقراطية. وبالتالي متوقع ان تجادل رايس بأن الولايات المتحدة يجب أن تقف في طليعة “تحالف من الدول الديمقراطية ذات الأسواق الحرة” وإلا فإن القوى التصحيحية ستعيد تشكيل العالم مما يعني الرجوع إلى “الغزو الإقليمي في الخارج والممارسات الاستبدادية في الداخل”.
لكن من منظور (الكثير) العرب، لا يمكن انكار العيوب الصارخة في اقتراحات رايس. ومع ذلك، قد يكون من الضروري توضيحها. أولاً، الشعوب في جميع أنحاء العالم، وخاصة في دور المتلقّي للقوة الأمريكية، بما في ذلك العرب، ستختلف بشدة بشأن فوائد ثمانون عامًا من النظام العالمي (غير المنظم!) بقيادة الولايات المتحدة. فإن إحساس رايس بالاستثنائية الأمريكية (كغيرها من نخب السياسية الخارجية الأمريكية) مغروس بعمق في خطابها لدرجة تجعلها تتجاهل أدلّة الواقع. مثلا: أين غزة في روايتها؟ إنها تتجاهل الضربة القاسية التي تلقتها المكانة العالمية للولايات المتحدة ، بما في ذلك كقوة ديمقراطية، في الرأي العام العالمي، منذ الحرب على غزة. في الواقع، بينما تعرض رؤيتها المستقبلية للسياسة الأمريكية ، لم تذكر رايس غزة (فضلًا عن فلسطين) على الإطلاق. لا تذكر كيف أن التمويل الأمريكي، والتغطية السياسية، والمشاركة الاستخباراتية في الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على اهل غزة, أثرت على آراء الناس تجاه الولايات المتحدة. ولا تأخذ في عين الاعتبار كيف تنعكس استضافة الكونغرس الأمريكي لمجرم حرب يسعى لتأجيل مذكرة اعتقاله من المحكمة الجنائية الدولية في يوليو الماضي على تبنّي أمريكا المعلن والمزعوم لقيم وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
إن اعتراف رايس الوحيد بالإبادة المستمرة التي قتلت ما لا يقل عن 40,000 فلسطيني، 70% منهم نساء وأطفال، هو وصفها بحرب “أطلقتها حماس بتهور”. قد لا نتوقع من وزيرة الخارجية ,التي كانت الوجه الدبلوماسي الثاني (بعد الراحل كولن باول) لحرب بوش على الإرهاب ,أن تعبر عن الكثير من الألم بسبب مذابح أطفال العرب والمسلمين. ومع ذلك، فكان من الأجدر بعض الاعتراف بالتورط الأمريكي في غزة، ولا سيما بيع وارسال اسلحة لإسرائيل قيمتها عشرات المليارات ، وتدهور الرأي العام العالمي نتيجة لذلك، الذي من شأنه أن يستخرج حجتها من وحل الإيديولوجيا المجردة.
ثانيًا، القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط مارست ودعمت لعقود الاحتلال وارتكبت اعتداءات عسكرية لا حصر لها وعززت الاستبداد. يبدو من الملائم لرايس أن تلقي اللوم الضمني او المباشر على ايران فيما يخص العنف المنتشر في الشرق الأوسط ، الدولة التي كما تقول قويت نتيجة “إفراج بايدن عن ثروات ايرانية” مقابل إطلاق سراح رهائن. قد ينسى بعض قرائها، لكن العرب لا يمكنهم تجاهل الفظائع التي جلبتها السياسة الأمريكية إلى المنطقة في فترة ولايتها. ومن الجدير بالذكر أن ما يسمى بـ “أجندة الحرية”, التي أطلقت فيها الولايات المتحدة الترويج للديمقراطية في المنطقة ,كانت جزءًا لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب. هذه “الحرية” كانت لتُفرض على العراق تحت مبررات كاذبة تحديدا امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، تلتها وعود كاذبة مماثلة بالديمقراطية عن طريق الغزو.
ومن ثم شهد الشعب العراقي الذي كان يعاني من العقوبات الاقتصادية التي سببت وفاة نصف مليون إلى أكثر من مليون طفل في التسعينيات من القرن الماضي, مئات الآلاف من القتلى بسبب حرب امريكا الذي بدأ عام 2003. ويقدر مشروع “تكاليف الحرب” في جامعة براون الأمريكية أن حروب الولايات المتحدة “ما بعد 11 سبتمبر” (العراق، أفغانستان، اليمن، سوريا، وباكستان) قتلت أكثر من 432,000 مدني مع عام 2021، بالإضافة إلى 3.6-3.8 مليون “وفيات غير مباشرة”.وأتى تدمير الدولة العراقية (نذكر اجتثاث البعث)، الاقتتال الطائفي، ودستور هندسته الولايات المتحدة (بطابع طائفي)، كله من إرث هذه الحرب. الديمقراطية ليست ضمن هذا الإرث.
كانت رايس ايضا الوزيرة الخارجية أيضًا أثناء حرب “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية في غزة 2008-2009 التي قُتل فيها أكثر من 1300 فلسطيني. لكن رايس قلقة الان وفق قولها بأن تشعلا حماس وحزب الله حروبًا أخرى، وأن تفشل دول خليجية اخرى في التطبيع مع إسرائيل. ان هذه القراءة الضيقة الإمبريالية للمنطقة المتمركزة على دور الولايات المتحدة وعلى اسرائيل ليست سوى تزييف للتاريخ القريب.
ثالثًا وبشكل مرتبط، لا ترى رايس في نظرة “رقعة الشطرنج الكبرى” للشرق الأوسط (والعالم) التي تتبناها, أشخاصًا حقيقيين بآراء حقيقية. وقد نتج عن قصر النظر المنتشر المنتشر بين معظم صانعي القرار الأمريكيين والباحثين الغربيين حيث لا ينظرون بجدية إلى الشعوب العربية وارادتها, انها تفاجأت بنشوب الربيع العربي. وبشكل شبيه، فإن نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين من قبل الولايات المتحدة وعدم اكتراثها بغضب الجماهير العربية (ضد الولايات المتحدة وضد الحكام المستبدين الذين تدعمهم امريكا من الأردن إلى مصر إلى الإمارات) الذين لا يمكنهم فعل الا القليل في وجه ابادة جيرانهم الفلسطينيين مثل الاحتجاج في بعض الأحيان ، يقلل من تقدير حتى القوة الكامنة التي تمتلكها الشعوب. ويمتد عند رايس قصر النظرهذا الذي يتفوق فيه الواقعيين, بشكل مذهل إلى الولايات المتحدة نفسها. فهي تعترف بشكل ضمني فقط ببعض انتقادات الشباب الأمريكي للموقف الأمريكي بشأن غزة. وهي تلقي اللوم على “المؤسسات الثقافية النخبوية” التي تعلم طلبتها أن “يهدموا الولايات المتحدة” بدلاً من تقدير قيمها. ومن اللافت أن ذلك يعبر عن تقزيم لشباب الجامعات الأمريكية الذين ربما تعتبرهم مثل الطين في أيدي الجامعات الكبرى (ربما باستثناء ستانفورد؟) تصوّرهم كيف تشاء. ليس لدى هؤلاء الشباب آراء وتقييمات ناضجة خاصة بهم حسب هذه النظرة. الجهل بـ “تعقيد التاريخ” الذي تندب عليه رايس يحيلنا بشكل مخيف الى تصريح بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي حين قال بأن العديد من المحتجين “ليس لديهم فكرة عن أي نهر وأي بحر يتحدثون ” عندما يهتفون “من النهر إلى البحر”.
يعلم الناس في جميع أنحاء العالم، من المثقفين أو غيرهم، أن القوى العظمى تسعى عبر التاريخ والجغرافيا البشرية إلى بسط نفوذها وتوسيع قوتها. ولكن اعلمي، د. رايس، أن الشعوب العربية هم طلبة تاريخ أمريكا وتاريخهم أيضًا. إنهم لم يقتنعوا بالإدعاء أن “انخراط” الولايات المتحدة في العالم على مدى ثمانين عامًا كان دائمًا يناصر الديمقراطية، على الأقل في منطقتهم. فبصفتها “قوة استقرار” مزعومة، فإن قيادة أمريكا الاستخراجية للمنطقة عملت ضد تطلعات الشعوب ونضالاتها من أجل الحرية والكرامة. وبالعكس لقد عززت التبعية الاستبدادية والأنظمة العسكرية الفاسدة، مما مكّن الدعم غير المحدود لدولة استعمارية استيطانية زرع بذورها المستعمرون البريطانيون في وسط المنطقة.
أما بالنسبة للشعوب العربية، آن الأوان للحظة من التفكير والتأمل. وقد تحطّم وعد الربيع العربي بالديمقراطية، وبقادة يمثلون مصالح شعوبهم وليس فقط مصالحهم الخاصة أو مصالح رعاتهم الغربيين النيوليبراليين والعسكريين، بفعل العديد من الحروب وعودة الاستبداد في كل مكان. ويسمح غياب الديمقراطية في العالم العربي بحدوث مآسٍ مثل الإبادة الجماعية في غزة، التي تفوق حتى نكبة 1948، والتي تحدث أمام أعيننا.
من الصحيح أن التحرر الذي يسعى إليه العرب ليس معروضًا من قبل الروس أو الصينيين الذين تخشاهم رايس ومن على شاكلتها. لكنه لم يكن هذا التحرر يومًا معروضًا حقًا من قبل الأمريكيين. اذن يمكن للعرب على الأقل الاستغناء عن القيادة الأمريكية للعالم. لا ينبغي على دول المنطقة أن تتخلى عن الانخراط مع الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن يجب عليها أن تستغل اللحظة الحالية من التعددية القطبية. نحن على أعتاب مرحلة جديدة قد تثبت فائدتها لشعوب الجنوب العالمي التي تشكل الشعوب العربية جزءًا منها.
..