وجهة نظر…
صعود وأفول “القيادة” الامريكية؟
![A person standing at a podium with a person standing at the podium
Description automatically generated](https://demostunisia.com/wp-content/uploads/2024/09/a-person-standing-at-a-podium-with-a-person-standi-1.png)
مصدر الصورة: Wikimedia Commons
ديموس تونس
29 اب 2024
يبدو أنّ الوطن العربي “شديد الاختراق” فقد تعرّض عبر التاريخ للتوغّل والاحتلال الأجنبي لأكثر من 150 عامًا، من هذا المنطلق لا يمكن لشعوبه ونخبه ان تتجاهل الصراعات على “القيادة العالمية”. يستمر العرب في نضالهم لكسر قيود التبعية والتدخل (ما بعد) الاستعماري حيث شكّل التطلع للسيادة الوطنية صميم الحركات المناهضة للاستعمار، كان ذلك منذ اربعينات القرن الماضي وتأكّد بحركات الربيع العربي التي انطلقت عام 2011 والمقاومة الفلسطينية المستمرة منذ أكتوبر 2023 ضد الاحتلال والعنف والتهجير القصري الذي يمارسه المحتل. يبدو انه أصبح متأكّدا أكثر مما مضى الربط بين سعي شعوب المنطقة الى التحرر ومتابعة المنافسة الشديدة بين القوى العظمى وخططها التي تحرص على قيادة المنطقة.
في مقال نشرته مؤخرا المجلة الأمريكية المعروفة والمؤثرة “الشؤون الخارجية” (فورين افيرز)، ترفض مستشارة الأمن القومي السابقة (2001-2005) ووزيرة الخارجية (2005-2009) في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش فكرة “الانعزالية” الأمريكية. تكتب هذه البروفيسورة المختصة بالعلوم السياسية في جامعة ستانفورد أن في هذا المناخ الدولي الذي أصبح “أكثر خطورة” من حقبة الحرب الباردة و الذي يأكّد عجز العولمة على التحول الى “قوة إيجابية” تقود العالم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلّى عن واجبها (الطبيعي على ما يبدو) بقيادة عالم الديمقراطيات والأسواق الحرة. حيث تدفع الصين بكل قوتها الاقتصادية والتكنولوجية المتطوّرة والمذهلة إلى “السيطرة السياسية” بدلا من الإصلاح السياسي الليبرالي إذ ستأدّي قيادة شي جين بينغ الى الصراع المباشر الخطيرلا سيما بشأن تايوان. كما عادت الإمبريالية الروسية بزخم كبير يتأكّد بغزو بوتين لأوكرانيا أمّا في الشرق الأوسط يبدو صعود إيران كقوّة نووية محتملة مسألة وقت لا أكثر ممّا قد “يخيف كل من روسيا والصين” نظرا لقدرتها على إحداث الفوضى في المنطقة وذلك حسب رأي صاحبة المقال.
وتشير رايس إلى أن “القوى التصحيحية” على رأسها الصين وروسيا تميل للتعاون أكثر فأكثر، مما يستوجب على الولايات المتحدة أن تتصرف بسرعة وبقوة. على أمريكا حسب قولها أن تستمر في الحرب والعقوبات المتواصلة ضد روسيا (وفي النهاية قبول أوكرانيا في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي)، وأن تتصدّى للتحدي التكنولوجي للصين من خلال استثمارات كبيرة، وأن تعزز ميزانيتها وتحسن استراتيجيتها الدفاعية. كما عليها ان تراعي في برامجها دعم القوة الناعمة (التعليم الجامعي الأمريكي، دعم حركات المعارضة) التي يمكن ان تخفف من حدة الردع الأمريكي، مما يجذب بعض الشرائح المرنة من الشعبين الروسي والصيني الى التأثير الأمريكي. تلتفت رايس أيضا ولكن بشكل موجز الى “الجنوب العالمي” Global South، حيث ترى انه يجب على الولايات المتحدة “إظهار مشاركة مستدامة” في قضايا “التنمية الاقتصادية والأمن وتغير المناخ”، ويفضل أن يتم ذلك قبل أن تتفوق عليها الصين في ذلك. والخلاصة، كما تقول وزيرة الخارجية السابقة، هي أن الولايات المتحدة يجب ألا تتراجع على محاولة “تشكيل النظام العالمي” وفقًا لما يناسبها.
لطالما كان “الاستثناء الأمريكي“، او الفكرة التي تقول أن الولايات المتحدة أمة فريدة اختارها الله لتكون “مدينة مضيئة على تلة”، نموذجًا رياديًا للحرية في العالم، حاضرا في الخطاب السياسي الأمريكي. وكما يراها أصحاب النظرية البنائية constructivism في العلاقات الدولية، فإن مركزية هوية الولايات المتحدة كالديمقراطية الرائدة في العالم، حسب السردية التي حاكتها على نفسها، تتداخل مع تشكيل بعض سياساتها الخارجية، بما في ذلك ما يسمى بالترويج للديمقراطية. وبالتالي متوقع ان تجادل رايس بأن الولايات المتحدة يجب أن تقف في طليعة “تحالف من الدول الديمقراطية ذات الأسواق الحرة” وإلا فإن القوى التصحيحية ستعيد تشكيل العالم مما يعني الرجوع إلى “الغزو الإقليمي في الخارج والممارسات الاستبدادية في الداخل”.
لكن من منظور عربي، لا يمكن انكار العيوب الصارخة في اقتراحات رايس. ومع ذلك، قد يكون من الضروري توضيحها وفق الملاحظات التالية:
أولاً، تختلف الشعوب في جميع أنحاء العالم، وخاصة تلك المتلقية للسياسات الخارجية الامريكية ، بما فيها الشعوب العربية، حول جدوى ثمانية عقود من النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة. إن إحساس رايس بالاستثنائية الأمريكية (كغيرها من نخب السياسية الخارجية الأمريكية) مغروس بعمق في خطابها لدرجة تجعلها تتجاهل أدلّة فرضها الواقع. مثلا: أين غزة في سرديتها؟ إنها تتجاهل الضربة القاسية التي تلقتها المكانة العالمية للولايات المتحدة ، بما في ذلك كقوة ديمقراطية، في الرأي العام العالمي، منذ الحرب على غزة. ففي الوقت الذي تعرض رايس رؤيتها المستقبلية للسياسة الأمريكية ، لم تذكر غزة (فضلًا عن فلسطين) على الإطلاق. لا تذكر كيف أن التمويل الأمريكي، والتغطية السياسية، والمشاركة الاستخباراتية في الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على اهل غزة أثرت على آراء الناس تجاه الولايات المتحدة كما لا تأخذ بعين الاعتبار كيف تنعكس استضافة الكونغرس الأمريكي لمجرم حرب يسعى لتأجيل مذكرة اعتقاله من المحكمة الجنائية الدولية الصادرة في يوليو الماضي ،على تبنّي أمريكا المعلن والمزعوم لقيم وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. لم تعترف رايس بالإبادة المستمرة التي قتلت ما لا يقل عن 40,000 فلسطيني (70% منهم نساء وأطفال) واكتفت بوصفها حرب “أطلقتها حماس بتهور”. قد لا نتوقع من وزيرة الخارجية التي كانت الوجه الدبلوماسي الثاني (بعد الراحل كولن باول) لحرب بوش على الإرهاب أن تعبر عن الكثير من الألم بسبب مذابح أطفال العرب والمسلمين. ومع ذلك كان من الأجدر بها الاعتراف وإن جزئيا بالتورط الأمريكي في غزة، ولا سيما بيع وارسال اسلحة لإسرائيل قيمتها عشرات المليارات مما اثار غضب الرأي العام العالمي الذي من شأنه أن يستخرج حجتها من وحل الإيديولوجيا المجردة.
ثانيا : دعمت القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط ولعقود الاحتلال وارتكبت اعتداءات عسكرية لا حصر لها وعززت الاستبداد. يبدو مفهوما ان تلقي رايس باللوم الضمني او المباشر على ايران فيما يخص العنف المنتشر في الشرق الأوسط ، الدولة التي كما تقول رايس استقوت نتيجة “إفراج بايدن عن ثروات ايرانية” مقابل إطلاق سراح رهائن. لكن لا يمكن للعرب تجاهل الفظائع التي جلبتها السياسة الأمريكية إلى المنطقة في فترة ولايتها. ومن الجدير بالذكر أن ما يسمى بـ “أجندة الحرية”, التي أطلقتها الولايات المتحدة للترويج للديمقراطية في المنطقة كانت جزءًا لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب، هذه “الحرية” فرضت على العراق تحت مبررات كاذبة منها امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، تلتها وعود كاذبة مماثلة بالديمقراطية عن طريق الغزو ومن ثم شهد الشعب العراقي الذي كان يعاني من العقوبات الاقتصادية التي سببت وفاة نصف مليون إلى أكثر من مليون طفل في التسعينيات من القرن الماضي مئات الآلاف من القتلى بسبب حرب امريكا التي بدأت عام 2003. ويقدر مشروع “تكاليف الحرب” في جامعة براون الأمريكية أن حروب الولايات المتحدة “ما بعد 11 سبتمبر” (العراق، أفغانستان، اليمن، سوريا، وباكستان) قتلت أكثر من 432,000 مدني مع عام 2021، بالإضافة إلى 3.6-3.8 مليون “وفيات غير مباشرة”. وأدى تدمير الدولة العراقية (نذكر اجتثاث البعث) إلى الاقتتال الطائفي كما ان دستور هندسته الولايات المتحدة (بطابع طائفي). يستبعد الرغبة في تأسيس ديمقراطي حقيقي.
كانت رايس ايضا الوزيرة الخارجية أيضًا أثناء حرب “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية في غزة 2008-2009 التي قُتل فيها أكثر من 1300 فلسطيني. لكن رايس قلقة الان وفق قولها بأن يشعل حزب الله وحماس حروبًا أخرى، وأن تفشل دول خليجية اخرى في التطبيع مع إسرائيل. ان هذه القراءة الضيقة الإمبريالية للمنطقة المتمركزة على دور الولايات المتحدة وعلى اسرائيل ليست سوى تزييف للتاريخ القريب.
ثالثًا: إن رؤية رايس حسب “رقعة الشطرنج الكبرى” للشرق الأوسط التي تتبناها لا ترى في شعوب المنطقة أشخاصًا حقيقيين بمشاريع حقيقية. وقد نتج عن قصر النظر المنتشر بين معظم صانعي القرار الأمريكيين والباحثين الغربيين الذين يحقرون الشعوب العربية وارادتها تفاجأهم بالتغيرات السياسية التي فرضتها تلك الشعوب ومنها ثورات الربيع العربي. كما أن نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين من قبل الولايات المتحدة وعدم اكتراثها بغضب الجماهير العربية (ضد الولايات المتحدة وضد الحكام المستبدين الذين تدعمهم امريكا من الأردن إلى مصر إلى الإمارات) الذين لم يمكنهم الا فعل القليل في وجه ابادة جيرانهم الفلسطينيين مثل الاحتجاج في بعض الأحيان ، يقلل من تقدير القوة الكامنة التي تمتلكها الشعوب. ولا يقتصر قصر النظر الذي ابدته رايس على واقع الشعوب العربية فقط وانما يتعداه إلى الولايات المتحدة نفسها، فهي تعترف بشكل ضمني فقط ببعض انتقادات الشباب الأمريكي للموقف الأمريكي بشأن غزة وتلقي اللوم على “المؤسسات الثقافية النخبوية” التي تعلم طلبتها أن “يهدموا الولايات المتحدة” بدلاً من تقدير قيمها. ومن اللافت أن ذلك يعبر عن تقزيم لقيمة شباب الجامعات الأمريكية الذين ربما تعتبرهم مثل الطين في أيدي الجامعات الكبرى (ربما باستثناء ستانفورد؟) تصوّرهم كيف تشاء. ليس لدى هؤلاء الشباب ، حسب رايس دائما، آراء وتقييمات ناضجة خاصة بهم فضلا عن كونهم جاهلين بـ “تعقيدات التاريخ” الذي تتحدث عنه رايس بما يحيلنا بشكل مخيف الى تصريح بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي حين قال بأن العديد من المحتجين “ليس لديهم فكرة عن أي نهر وأي بحر يتحدثون ” عندما يهتفون “من النهر إلى البحر”.
يعلم الناس في جميع أنحاء العالم، من المثقفين أو غيرهم، أن القوى العظمى تسعى عبر التاريخ والجغرافيا البشرية إلى بسط نفوذها وتوسيع قوتها. ولكن ليكن في علم د رايس أن الشعوب العربية وهم على علم تام بتاريخهم وتاريخ الولايات المتحدة الامريكية لم يقتنعوا بالإدعاء أن “انخراط” الولايات المتحدة في العالم على مدى ثمانين عامًا كان دائمًا يناصر الديمقراطية على الأقل في منطقتهم. بصفتها “قوة استقرار” المزعومة، فإن الولايات المتحدة بالمنطق “الاستخراجي” extractivist* الذي تدير به الشرق الأوسط, تعمل ضد تطلعات الشعوب ونضالاتها من أجل الحرية والكرامة. وبالعكس لقد عززت الإدارة الامريكية التبعية الاستبدادية والأنظمة العسكرية الفاسدة، مما مكّن الدعم غير المحدود لدولة استعمارية استيطانية زرع بذورها المستعمرون البريطانيون في وسط المنطقة.
أما بالنسبة للشعوب العربية فقد آن أوان التفكير والتأمل. فبعد أن تحطّم وعد الربيع العربي بالديمقراطية، وبنشأة قادة يمثلون مصالح شعوبهم وليس فقط مصالحهم الخاصة أو مصالح رعاتهم الغربيين النيوليبراليين والعسكريين، وبعد انتشار الحروب والاستبداد، ها هو غياب الديمقراطية يسمح بحدوث مآسٍ مثل الإبادة الجماعية في غزة، التي تفوق حتى نكبة 1948، والتي تحدث أمام أعيننا.
من الصحيح أن التحرر الذي يسعى إليه العرب ليس معروضًا من قبل الروس أو الصينيين الذين تخشاهم رايس ومن على شاكلتها. لكنه لم يكن هذا التحرر يومًا معروضًا حقًا من قبل الأمريكيين. اذن يمكن للعرب على الأقل الاستغناء عن القيادة الأمريكية للعالم. لا ينبغي على دول المنطقة أن تتخلى عن الانخراط مع الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن يجب عليها أن تستغل اللحظة الحالية من التعددية القطبية. نحن على أعتاب مرحلة جديدة قد تثبت فائدتها لشعوب الجنوب العالمي التي تشكل الشعوب العربية جزءًا منها.
..
* تفترض نظرية التبادل غير المتكافئ أن النمو الاقتصادي في “الاقتصادات المتقدمة” في الشمال العالمي يعتمد على تخصيص صافي كبير للموارد والعمالة من الجنوب العالمي، يتم استخراجها من خلال فروق الأسعار في التجارة الدولية¸ ويتم معظم هذا التخصيص من خلال سلاسل السلع العالمية، حيث تنشر الشركات الشمالية احتكار الشراء